لعله إذ يقول: (كما لم اعلق على مظاهرتكم وتجمعكم، فلتتركوني اسمع "عبري" كما أريد!) ، رداً على تلك الصبية التي طلبت منه على الاقل أن يحترم المظاهرة المناصرة لإضراب الأسرى في سجون الصهاينة، بما أنه لن يشارك، وذلك أثناء مروره بسيارته التي تصدح منها ألحان وأغان عبرية، في أحد أحياء مدينة القدس التي تشهد إعتصامات داعمة لإضراب الأسرى الجائع للحرية، لم يدرك بعد أنه يعد تمثلاً جلياً لأحد إثنين من "أجهزة الدولة" كما عرَّفهم لويس التوسير، إذ صنفهم ذلك الأخير إلى "أجهزة قمعية" والتي هي عتاد أنظمة السلطة في ممارسة التحكم والهيمنة المادية على المكان والأفراد بواسطة العنف والقمع والقوة المادية الصلبة من خلال أجهزة الشرطة والجيش وقانون العقوبات، أما النوع الثاني فهو ما يمثله ذلك الفلسطيني "المارق بسيارته/مكانه" المعبرّن باعتباره نتيجة له، وهو "الأجهزة الأيديولوجية" وهي أجهزة قمعية من نوع آخر تعتمد الأيديولوجيا أو اللاوعي الاجتماعي الذي يعاد انتاجه وتشكيله في مؤسسات الدولة والمجتمع المختلفة، حيث يتم اعادة تعريفه وتشكيله بحيث يعيد تعريف العلاقات الناظمة بين: - الأفراد بعضهم بعضاً، وعلاقات تعريف الجامع الذاتي بينهم. - إدراكهم للفضاء الحاوي لهم والعالم وموقعهم منه.
وهو مالا يمكن الوصول إليه إلا من خلال تعديل الخطاب، الذي يعد بحسب المفكر الفرنسي ميشيل فوكو "كل انتاج ذهني سواءاً أكان نثراً أم شعراً منطوقاً أم مكتوباً فردياً أم جماعياً، ذاتياً أم مؤسسياً"، فللخطاب منطق داخلي وارتباطات مؤسسية، فهو ليس ناتجاً بالضرورة فقط عن ذات فردية بعيدة كل البعد عن التأثير والتأثير بالمكان والزمان والذات منهما.
ولكي نفهم سيرورة الزمان والمكان الفلسطينييَّن الواقعين تحت "الاستيطان الإحلالي" - وليس مجرد استعمار- يجب علينا استحضار نموذج تمثيلي لهما على أن يكون في مرحلة أكثر تقدماً، تخطت حاجز المقاومة والرفض، ولعل الحالة الأمريكية باعتبارها حالة استيطانية إحلالية، قامت مروراً بثلاثة مراحل متعاقبة ومترابطة عضوياً: إحتلال وإستعمار أرض جديدة، ومن ثم "الاستيطان" بها (أي خلق تمثيلات مادية للـ"وطن")، وذلك بعد "إحلال" مجموعات بشرية مختلفة من خارج الزمان والمكان الأصلييَّن، وطرد/قتل/تشريد/نفي أصحاب الأرض/المكان والحضارة/الزمان الأصليين، وبذلك تصير الحالة الأمريكية هي الأكثر تمثيلاً كولونيالياً. فالهندي الأحمر الذي يعد صاحب المكان والزمان الذي قامت عليهما "أمريكا"، قد أصبح جزءاً من اللغة والتاريخ والثقافة الأمريكية، ولكنه ليس جزءاً مقاوماً، إنما جزء عضوي ساكن، في النموذج الأمريكي، ذلك الأخير الذي يتجمل بالهندي الأحمر من باب شفقة الجاني على الضحية، حيث لا يمكن للرجل الأمريكي الأبيض التعرف على ذاته من دون الهندي الأحمر:
فمِنْ حقّ كولومبوس الْحُرّ أن يَجدَ الهنْد في أيّ بَحْر،
ومَنْ حقّه أن يُسمّي أَشْباحَنا فُلفُلاً أوْ هُنودا،
وفي وُسْعهِ أَنْ يكسّر بوْصلةَ الْبحْر كي تَسْتقيم
وَأخطاءَ ريح الشّمال، ولكنّه لا يصدّق أنّ الْبشر
سواسيّةٌ كالْهواء وكالماء خارج ممْلكة الْخارطة!
(م.درويش)
لقد تحول الهندي الأحمر إلى جزء من تعريف البنية الكولونيالية لنفسها، بل ولرمز كولونيالي فاعل لديمومة فعلها الأيديولوجي، وإدراكها لذاتها أو ما يمكن أن نسميه بالتمثيل من حيث هو"ضرب من العمليات التي تدور حول طريقتنا في النظر إلى أنفسنا وإلى الآخرين، وطريقتنا في عرض أنفسنا وتقديم الآخرين" حيث " مامن معرفة سياسية أو سواها خارج التمثيل". فهاهي الولايات المتحدة التي تحت إدعاء نشر الديموقراطية وحقوق الإنسان تسمي عملية اغتيال أسامة بن لادن باسم أحد أكبر قادة قبائل الهنود الحمر الذين قاوموا الاستيطان الأمريكي لأراضيهم، وهو نفس الإسم الذي تسمى به الطائرة المروحية / إله الحديد المستخدمة من الجيش الإسرائيلي في عملياته ضد الفلسطينيين، والتي هي –أيضاً - صناعة امريكية، فهاهو الأبيض الكولونيالي، يكرم نفسه بضحاياه.
مخطيء من يظن أن ذلك الفلسطيني المارق بسيارته "المعبرنة" قادر على تعريف نفسه وإدراك تمثلاتها في بنية الدولة الكولونيالية على أنها ذات "فلسطينية"، إنما هو يعد "هندياً أحمر" يحتفل بأعياده ومناسباته الهندية الوطنية ذات الطابع القبائلي الخاصة به وحده، على التلفزيون الامريكي مرتدياً الجينز ويأكل وجبات سريعة متحدثاً بلغته المحلية في مكتب العمدة المحلي المقام على أنقاض قريته ورفات من دافع عن هويته ووطنه.
ولعل لذلك الحدث أهمية شديدة في تحليل الموقف واستيضاح المعنى، فالحراك الأسير المقاوم الجائع للحرية يعيد لعملية مقاومة أسرلة المكان والزمان الفلسطينيين زخماً حيوياً هاماً ، فذلك الدعم الفلسطيني للأسرى على كامل الأرض الفلسطينية المحتلة (مباشرة أو عن طريق ما أسماهم فرانز فانون وسطاء الإستعمار) هو محاولة لتحرير المكان وتقشير الظل الإسرائيلي عنه (الشوارع/المدن/الجامعات/المساجد/الكنائس/المعابر)، تلك الأماكن التي تعتبر من أساسيات بنية "أجهزة الدولة الأيديولوجية الحديثة"، التي تشكل اساس أدراكنا للمكان الفلسطيني المحتل، إذ "لايصبح مكاناً مكاناً إلا حين يأخذ إسماً وحدوداً وشكلاً معيناً يمثله، وتتشكل الأماكن بفعل مزدوج، فهي في الغالب تشيد وتنحت مادياً لكنها أيضاً تتشكل من خلال عمليات السرد والتفسير والاحساس والانطباعات والفهم والخيال".
كما يساهم ذلك الدعم في استعادة الـ"زمنية الفلسطينية الجامعة" التي يدرك الفلسطينيون ذاتهم من خلالها، تلك الزمنية الجامعة التي تتخطى الحدود التعريفية الايديولوجية الفارقة والتي تعد صنيعة الخطاب الصهيوني (عرب الـ48/فلسطينيوا 67/ عرب الداخل/ فلسطينوا المنافي والشتات) وغيرها. وهو ما يعد كسراً لمرآوية الذات الفلسطينية صهيونياً ، لتعود حدود الزمان والمكان الفلسطينيين من البحر إلى النهر، وهو ما يعطي أهمية قصوى للحراك الداعم للاسرى داخل المكان الفلسطيني كاملاً وخارجه في المنافي والشتات، تذكيراً للعالم بأن الفلسطينون لم يتحولوا إلى "هنود حمر" تتجمل بها أحياء وأكتاف أعداءنا، وأن المكان الفلسطيني لم يعلن هزيمته بعد، و أن الزمنية الجامعة فلسطينياً وعربياً أكبر من حدود أزمنة حكوماتنا ورباعياتها واستحقاقاتها الايلولية.
(طوبى لمن يكتبون التاريخ بجوعهم وصمتنا)